الذوق الفنى
نقلا عن : أحمد علبي
--------------------------------------------------------------------------------
التذوق الفني هو التجلي الفعلي للحضارة وهو لا يكتسب بالوفرة المادية فقط. ولكنه خلاصة مكثفة لمسار اجتماعي وثقافي عرف كيف يتذوق الجمال. وهو ليس ذوقا ثابت المقاييس ولكنه ينمو ويتطور ويتأقلم مع حاجات الإنسان.
نشرع في الكتابة مستلهمين عبارة لطه حسين، وردت في كتابه " مرآة الضمير الحديث ". يقول عميد الأدب العربي، " فتنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب يسير كل السير. ولكنه على ذلك عسر كل العسر وهو قريب كل القرب، ولكنه على ذلك بعيد كل البعد ". إن تنشئة الذوق، والفني منه بنوع خاص، أمر يسير عسير، قريب بعيد، كما ينبئنا طه، فأنت تكتسب المهنة، على سبيل المثال، بالمران والدربة. ولكنك عاجز عن التغلغل إلى سرها إلا بعد صحبة مديدة وشغف بهذا العمل الذي تكب عليه، بحيث يحدث، في نهاية المطاف، ضرب من الحنان والتواصل بين أصابعك والسلعة التي تنصرف إلى إخراجها بإتقان وذوق. ولربما تحمل كلمة " معلم " التي تطلق على الماهر في صنعته، في طياتها كل المعاني التي تسبغ على السلعة المتكاملة ذوقا وإنجازا.
ولكن الذوق الفني يفوق العمل اليدوي المتقدم الذكر، إنه التجلي للفعل الحضاري، للتركيب الفوقي في المجتمع، ومن هنا إشكاليته. إن الوفرة المادية وحدها لا تنتج ذوقا، إنها تطعم وتكسو وتؤوي. والقوة المادية لا تقرب الذوق، إنها ترهب وتكسر وتبيد. إن الذوق الفني خلاصة لتركيب اجتماعي عرف الاستقرار والبحبوحة والمناعة، ومال بعدها إلى النعيم والمتارف، نعيم الجمال يستغرق في أشكاله، ومتارف الحس الذي يغتني وتتخمر في طواياه، بفعل الزمن المتوالي، ردود فعل تنبئ برهافة وأناقة، بهيف وعمق وثقافة.
طبقية الفن
والذوق الفني له دلالة طبقية واضحة، وإن كانت تتخفى وراء الواجهة الإنسانية. لقد تولد من شرائح اجتماعية أمسكت بزمام السلطة قرونا، ونالت نصيبها الوافي من تكديس الخبرات واستثمار قوى الإنتاج. وعندما نلتفت إلى الآثار القديمة ندرك أنه تقف وراء هذه الإبداعات في الحجر والرخام، جيوش الأرقاء التي وظفت بالسخرة لتنفيذ هذه الروائع، من قلاع ومعابد وقصور. وعندما تربعت الإقطاعية قرونا في شدة السلطة، عبر القارة الأوربية، أنتجت ثقافتها ونمط عيشها وضروب ذوقها الفني في اللباس والعمارة والأثاث، وكمن خلف رفاه هذه الطبقة التي هيمنت على الحكم إبان القرون الوسطى، تضحيات الفلاحين الأقنان الذين كدسوا المنتوج الزراعي في أهرامات أسيادهم الإقطاعيين.
والذوق البورجوازي يغاير سابقه الإقطاعي. إن الثقافة البورجوازية التي هلت، علانية، في العصور الحديثة مع بزوغ النهضة " الرنسانس "، تمحورت في المدن، وقامت على أكتاف الطبقة العاملة، وطرحت ذوقا جديدا يستمد معاييره من الحرية والعقلانية والعلمانية. وهكذا فالذوق لم يكن واحدا خلال التاريخ، لقد تلون بالثقافات التي أنتجته. وهذه الثقافات ازدهرت مع طبقات ناهضة، ووقع عبء تنفيذها أو وضع المداميك المادية لها، على طبقات راسفة في الأغلال مستثمرة، وذلك بفتح الميم.
الرغيفان
وهكذا يتبدى لنا، بعد الإلمامة السريعة السالفة، أن الذوق الفني خلاصة مكثفة لمسار اجتماعي واقتصادي وتطوري، وأن ما قد يبدو يسيرا قريب المنال هو، في حقيقته، عسير بعيد الغور. إن مثقفا في عصرنا، مترع التحصيل، عندما يقف أمام ا أثر فني متأملا مستلهما، فهو يحمل في بصره زادا من المعرفة والمقارنة عظيما. لقد تشبع بالتجارب الثقافية التي أنتجتها الطبقات الاجتماعية التي توالت على مسرح التاريخ، ثم إنه يفيد من كل التقدم المذهل الحاصل، لزمننا، في مضمار التقنية. فالتذوق لدى الإنسان ليس وليد اليوم، فمنذ أن نحت صخور الكهوف، في غابر الأزمان، إنما كان يعبر بالإزميل عن لهفته الجمالية. والحكمة الصينية القديمة معبرة عن هذا التوق إلى تذوق الجمال: " إذا كان لديك رغيفان من الخبز فبع أحدهما، واشتر بثمنه باقة من الزهر".
ولكن الذوق يغتني مع رقي الطبقات الاجتماعية على ممر الأزمنة، ويتأقلم مع حاجات الإنسانية وتوقها الآخر الصميم إلى العدالة. لقد كان القصر مقر النبيل في العصر الإقطاعي، وكان فلاحوه، يعيشون في أجحار هي زرائب للماشية والبشر . أما التجمعات السكانية الحديثة فهي ذوق جمالي يطمح إلى أن يسد حاجة جموع الناس إلى المسكن اللائق، المشرق، الصحي. ومع تعميم الثقافة لم يعد الذوق الفني مقصورا على نخبة متخمة، لقد أضحى، مع صعود البورجوازية وتوطدها، أوسع منالا بكثير. ومع طموح البشر المشروع إلى الاعدل فإنما يحققون، مع كرور السنين، شيوع الأجمل ودخول الناس أفواجا في مدرسة تذوق الجمال. وستحمل البشرية القادمة رغيفا يجلب العافية بيد، وباقة زهير نضرة باليد الأخرى.
والتذوق الفني قائم على الدهشة. وهي شعور تلقائي، غريزي، عند الطفل، وإنها لحافلة بالوعد. ومن واجب التربية أن ترعى هذه الدهشة، وتحوطها بالظروف المواتية لتفتحها. ولعل فن الشعوب البدائية تكمن فيه هذه الدهشة الفطرية. ولكن هذه الدهشة مرحلة أولى، ولا يعول عليها في التقييم النهائي. إنها كالآه المنطلقة من الفم، عند السماع، تنبئ بتأثر وإعجاب، ولكنها صرخة خارجية. والدهشة، النابعة من الثقافة المعمقة، تكمن، في عرقها الغائر، تلك الدهشة البريئة التي أتينا عليها، ولكنها عند التحليل تعتمد على الاكتناز المعرفي، والتثقيف الذاتي، وتربية الذوق وصقله بالمطالعات والتجارب.
المغامرة المدروسة
إن التذوق، المنبعث عن إعجاب ساذج، هو غير التذوق النابع من ثقافة وطيدة. ولا يعود الأمر إلى الأقصر والأطول، ولا إلى الفاتح والغامق، إن التذوق عماده العين المثقفة، والأذن المدربة، واللمس العارف بالأسرار. إن التذوق شأنه كشأن الإبداع، فهذا الإبداع لعب حر كما يقولون، ولكنه لعب أساسه الصنعة والمعرفة العميقة بأبجدية الفن. والمبدع المجدد هو الأكثر تغلغلا في إدراك قواعد الفن، بحيث يحظى بعملية التجاوز، ويكون قادرا على التطوير عن دراية وثقة، لا ضربا في المجهول وعبثا عدميا بالأصول. إنها مغامرة مدروسة. وهكذا التذوق الفني، ليس فانتازيا ودهشة مسطحة، ولكنه عودة إلى الجذور، وجرأة في اكتناه الأجمل والأدعى إلى تعميق الحس بإنسانية الإنسان.
الفعل الجمالي يناقض الحاجة الملحة المباشرة ، بمعنى أن الإبداع مرحلة متقدمة في العمل، يكون المرء فيها قد تخلص من نطاق الضرورات الحياتية ومن هاجس المحافظة على البقاء، لينفتل إلى إشباع نهمه إلى العمل الأكمل والأرقى والأجمل. وهكذا فالجمال وليد هذا التوق ، وليس، كما شاء له أفلاطون، محاكاة لعالم متخيل، مسكون بالمثل الدائمة. لا إبداع ، فنيا أو علميا، والمجتمع مرتكس في مستنقع الفاقة وتنهشه الحاجة، ولا تذوق والمجتمع مكبل بالتخلف والجهل. وحالنا، عموما، ينهض بالبرهان لمن طلبه، ويمدنا بالمثال لمن أحوجه المثال.
Bookmarks